
بيرزيت – 17 أيلول 2025: يفتتح المتحف الفلسطيني، بالشراكة مع مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، معرضًا بعنوان "ليست مجرّد ذاكرة: خليل رعد والعين المعاصرة"، الذي يعيد تقديم أعمال المصوّر الرائد خليل رعد (1854–1957) في حوار حيّ مع أسئلة الحاضر وتحدّياته، من خلال محاورة بين صور خليل رعد وإسهامات كلّ من الفنّانين والكتّاب المعاصرين: آدم روحانا وفلاديمير تماري وهدى بركات ورجا شحادة وعدنيّة شبلي ورشا السلطي، كما ويأتي المعرض امتدادًا لعرض سابق لهذه الأعمال أعدّته القيّمة والفنّانة فيرا تماري عام 2013، والذي أُقيم في بيروت بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة.
يمثّل هذا المعرض إحياءً لتجربة خليل رعد (1854–1957) الذي ترك إرثًا بصريًّا استثنائيًّا يمتدّ من أواخر القرن التاسع عشر حتّى عشيّة النكبة، ويضعنا أمام التحوّلات الكبرى التي شهدتها فلسطين من نهاية الحكم العثماني إلى وقوعها في قبضة الانتداب البريطاني، وصولًا إلى بدايات المشروع الصهيوني. ويقدّم المعرض مختارات من مجموعته المحفوظة لدى مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، والتي تضمّ نحو ثلاثة آلاف صورة، تتنوّع بين صور المشاهد الطبيعيّة الحضريّة والمدينيّة، وصور البورتريه والاحتفالات، إلى جانب صور تغطّي أحداثًا سياسيّة مفصليّة شكّلت ملامح التاريخ الفلسطيني، لتشكّل في مجملها واحدًا من أهمّ الأرشيفات البصريّة وأكثرها ثراءً.
وفي هذا السياق، تقول الفنّانة وقيّمة النسخة الأولى من المعرض فيرا تماري: "تبدو فلسطين في الصور الفوتوغرافيّة لخليل رعد مشهدًا غنيًّا، متنوّعًا في ثقافته وتقاليده وفي أصالة شعبه، علمًا بأنّ فلسطين كانت في زمنه أرضًا عند مفترق طرق، عالقة بين إمبراطوريّة عثمانيّة آفلة ودولة غربيّة واسعة النفوذ والقوّة – بريطانيا العظمى. يُقدِّم رعد في صوره بورتريهات أيقونيّة لفلسطين، نابضة بحياة مجتمع متجذّر في الأرض وفي تقاليده".
يُعيد المعرض النظر في مسارات رعد المتنوّعة: من صوره الأولى التي ارتبطت بالقصص التوراتيّة، واستجابت لأذواق الحجّاج والزوّار الأجانب الباحثين عن "الأرض المقدّسة"، إلى أعماله الحربيّة التي وثّقت أحداث الحرب العظمى وثورة 1936 وقمع الانتداب البريطاني للتظاهرات الفلسطينيّة، وصولًا إلى صور الاستوديو التي عكست حداثة المدينة الفلسطينيّة الناشئة وتحوّلات حياتها الاجتماعيّة.
لا يقتصر هذا المعرض على عرض أعمال خليل رعد وأرشيفه البصري، بل يأتي أيضًا بوصفه مساءلة نقديّة لفنّ وحرفة صناعة الصورة في فلسطين. ففي زمن تُغرق فيه صور الموت والدمار الفلسطيني الصحافة المحليّة والعالميّة، يصبح طرح أسئلة حول دور الصورة ووظيفتها أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى. ومن هذا المنظور، لا يعود المعرض إلى رعد بُغية استعادة حنينيّة، بل لاستكشاف عدسته التي قدّمت رؤية مغايرة لفلسطين، أرضًا وشعبًا ومشهدًا طبيعيًّا، عمّا صوّره معاصروه الغربيّون. حمل رعد معه تجربة النزوح من جبل لبنان، لكنّه سرعان ما تجذّر في القدس، فكان في موقع "الغريب – الداخلي": بعيدًا بما يكفي ليحافظ على مسافته، وقريبًا بما يكفي لينفذ إلى تفاصيل الحياة الفلسطينيّة. وهذا ما مكّنه من إنتاج أرشيف غني امتدّ على أكثر من خمسة عقود، سجّل خلاله مشاهد طبيعيّة، وصور بورتريه، ومظاهر من الحياة اليوميّة، وأحداثًا سياسيّة ودينيّة شكّلت ذاكرة جمعيّة لفلسطين حتّى النكبة، حين فقد منزله واستوديو التصوير الخاصّ به. لكنّ الجزء الأكبر من هذا الأرشيف أُنقذ وظلّ محفوظًا، لينتقل لاحقًا إلى مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، حيث يُطرح اليوم ليس بوصفه أثرًا تاريخيًّا فحسب، بل مساحة نقديّة تُعيد فتح أسئلة حول معنى الصورة في السياقات الاستعماريّة، بين كونها أداة للتوثيق والمقاومة وحفظ الذاكرة من جهة، ووسيطًا قد يسهم، عن قصد أو غير قصد، في إعادة إنتاج العنف والمحو من جهة أخرى.
ومن هذه المساءلة، ينفتح المعرض على أعمال المصوّر الفلسطيني آدم روحانا، الذي يستحضر رعد عبر إقامة استوديوهات شارع في بيت لحم والخليل والقدس، يلتقط فيها صورًا بورتريهيّة كبيرة المقاس للمارّة باستخدام تقنيّات التصوير الكلاسيكيّة التي اعتمدها رعد، ولكن بحساسيّة معاصرة. يضمّ المعرض مختارات من مشروعه "إذن بالرواية" المستلهم من إدوارد سعيد، ويُعرض بصيغة أرشيفيّة تشير إلى أرشيف مستقبلي يتشكّل في اللحظة التي تُهدّد فيها إمكانيّة هذا المستقبل نفسه، وسط تفاقم التفتّت وبلوغه ذروته في حرب الإبادة على غزّة، وما خلّفته من محاولات لاقتلاع الحياة والثقافة. كما يوثّق روحانا المواقع ذاتها التي سبق لرعد أن صوّرها، لتُعرض الصور المزدوجة لا للمقارنة السطحيّة بين "قبل" و"بعد"، بل لتسليط الضوء على الطابع المزدوج للصورة: فهي تحفظ الذاكرة بقدر ما تكشف عمّا فُقد. وفي هذا التوازي بين الماضي والحاضر، تتأكّد قيمة إرث خليل رعد الذي ما زال يشكّل بعد أكثر من قرن أداة لمساءلة الحاضر وحفظ الذاكرة في وجه المحو الاستعماري.
وحول أهميّة هذا المعرض يقول خالد فرّاج، مدير عامّ مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة: "يشكّل هذا المعرض استمراريّة حيّة للذاكرة الفلسطينيّة، إذ نحتفي من خلاله بخليل رعد وأعماله التي تمثّل جزءًا أساسيًّا من مجموعتنا البصريّة. إنّ تقديم هذه الصور في حوار مع الفنّ المعاصر يفتح آفاقًا جديدة أمام جمهور اليوم، ويؤكّد دور مؤسّسة الدراسات في حفظ هذا الإرث، وإبقائه حاضرًا كجزء من السرديّة الفلسطينيّة المستمرّة".
وفي هذا السياق يقول ندي أبو سعادة، قيّم المتحف الفلسطيني: "تزداد أهميّة هذا المعرض في كونه يجمع بين الماضي والحاضر في لحظة مفصليّة، فيضع أرشيف رعد التاريخي في حوار مباشر مع ممارسات فوتوغرافيّة معاصرة. هذه المقاربة لا تحتفي فقط بإرث أقدم مصوّر عربي في فلسطين، بل تفتح المجال أمام قراءة جديدة لتاريخ الصورة الفلسطينيّة، باعتبارها وثيقة بصريّة وصوتًا مستمرًّا في تشكيل الذاكرة الجماعيّة".
ويُذكر أنّ المتحف الفلسطيني جمعيّة غير حكوميّة ثقافيّة مُستقلّة، مُكرّسة لتعزيز ثقافة فلسطينيّة منفتحة وحيويّة على المستويَين المحلّي والدولي. يُقدّم المتحف ويساهم في إنتاج روايات عن تاريخ فلسطين وثقافتها ومجتمعها بمنظور جديد، كما يوفّر بيئة حاضنة للمشاريع الإبداعيّة والبرامج التعليميّة والأبحاث المُبتكرة، وهو أحد أهم المشاريع الثقافيّة المُعاصرة في فلسطين.
انتهى