غزل العروق: حياكة التاريخ الفلسطيني

قيّم/ة المعرض
بهاء الجعبة
القيّم المساعد
براء بواطنة

تشكّل الأزياء الشعبية الفلسطينية وعلاقتها بجسد المرأة أداة حميمية لاستكشاف التاريخ الاجتماعي الفلسطيني ككل وليس كعمل للمرأة فقط، وتعكس المطرّزات ارتباط وثيق بالبُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمختلف المراحل التي تُنتَج فيها قدرةً على توثيق ملامح هذه المراحل المختلفة وسردها. .

وفي السياق الفلسطيني، يعتبر التطريز والثوب التاريخي الفلسطيني وثيقة تاريخية شاهدة على مراحل تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية شهدتها فلسطين، لذلك نجد التطريز الفلسطيني في كل بيت فلسطيني أينما وجد، فقد حمل الفلسطينيون هذا الجانب من التراث إلى كل بقعة تواجدوا فيها لتذكرهم بتاريخهم وقضيتهم.

يستكشف غزل العروق ويفكك رموز الثوب الذي يعكس تاريخ فلسطين من خلال التطريز وعمل المرأة الفلسطينية في مختلف مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر، متتبعاً تحوّلاته من ممارسة ذاتية مدفوعة بالحب إلى رمزٍ للتراث الوطني ثمّ إلى منتجٍ يُتداول في الأسواق العالمية.

 

نبذة عن صالات العرض

التطريز في الحياة اليومية: شهادات على عمل المرأة
يشكّل الثوب الفلسطيني التقليدي جزءاً رئيسيّاً من هويّة المرأة الفلسطينيّة، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بحياتها اليوميّة، وكان يرافقها في إنجازها لمختلف أنواع المهام. ولذلك تُجسّد "أثواب الحياة اليوميّة" التي يُستهل بها المعرض، ما ينطوي عليه التطريز الفلسطيني من طابع حميميّ وجهد ووقت. أصبحت هذه الأثواب التي رافقت النساء في حياتهنّ اليوميّة بمثابة قطع فسيفساء تحمل آثار أثواب قديمة توارثتها أجيال من النساء، متنقّلة من أم إلى ابنتها ومن أخت إلى أختها ومن قريبةٍ إلى قريبتها، لتصل إلينا اليوم بقُطبها وخيوطها ورقعها والمواضع الممزقة فيها كشواهد مادية على الحياة اليومية في فلسطين أواخر القرن التاسع عشر، وعلى عمل النساء وكدحهنّ، الذي لا أدَلَّ عليه من مواضعٍ يبهت فيها الصباغ النيلي على كتان هذه الأثواب جرّاء تعرّضها الطويل لشمس الحقول التي أمضت فيها النساء سنوات من العمل والكدح مرتديةً هذه الأثواب، وكما كانت الشمس حاضرة لتترك على هذه الثياب علاماتٍ تدلّ على الجهد الذي بذلته النساء في الحقول، فإن أعمال المنزل أيضاً خلّفت أثراً تفصح عنه الرقع والتمزقات للنسيج المهترئ عند موضع الركبتين نتيجة وضعية الجلوس التي لطالما اتّخذتها النساء لتحضير الطعام أو تنظيف البيت، فتلامس أيديهنّ المبللة القماش المطرّز، ليرقّ مع الوقت ويهترئ. وتُشير فتحات صغيرة مرقّعة بعناية عند مساحة الصدر في تلك الأثواب إلى وضعيّة الرضاعة. .

Tتدعونا "أثواب الحياة اليوميّة"، عند قراءة التطريز الفلسطيني، إلى أخذ طبيعته العاطفية ومتعددة الطبقات بعين الاعتبار، فهو عمل لا يمكن اختصاره في لحظة زمنية أو هويّة فرديّة واحدة، بل هو انعكاسٌ لحياة الفلسطينيات في جميع مراحلها. .


من ثوب إلى صورة: التطريز باعتباره رمزاً
يمكن تلمّس الصلة الوثيقة بين التطريز ومكانته الرمزية على المستوى المادي الذي تمثله اللغة الداخليّة لوحدات التطريز وأشكاله الزخرفية، التي استُلهمت من مظاهر الحياة اليوميّة والأشكال النباتيّة والحيوانيّة والأحداث السياسيّة.

واكتسب التطريز بعد نكبة عام 1948 معاني فكريّة، وأنشأ نظاماً رمزياً يعبّر عن تراث فلسطين وديمومتها وقوّتها. وانتشرت صور التطريز والنساء اللواتي يرتدين الأثواب المطرّزة على نطاق واسعٍ في الملصقات السياسيّة، في فلسطين وخارجها. وفي سياق مساعي منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى إحياء التراث الفلسطينيّ كأداة للخطاب السياسيّ، جالت معارض التطريز حول العالم، واستُخدمت الأثواب المطرّزة زيّاً لعروض الدبكة، ومثّلت عروض التطريز الدوليّة تلك خلفيات لاجتماعات سياسيّة رفيعة المستوى، مؤدّيةً بذلك نوعاً من الدبلوماسية الثقافية.

وخلال الانتفاضة الأولى ارتدت النساء أثناء المظاهرات أثواباً مطرّزة حملت على صفحتها وحدات التطريز التقليديّة جنباً إلى جنب مع وحدات تطريز أخرى مبتكرة على شكل حمام وبنادق وخرائط وشعارات سياسيّة، فقدّمن بذلك شكلاً جسدياً لمحطّات النضال السياسي.

 

ما وراء "عمل المرأة": التطريز والنوع الاجتماعي (الجندر)
لا يمكن تناول التطريز الفلسطيني بمعزل عن صلته العميقة بالنوع الاجتماعي (الجندر)، فهذه الممارسة التي احترفتها نساء القرى عبر قرون من الزمن، ارتبطت تاريخياً بمحطّات هامّة من حياتهنّ في مراحل الطفولة والزواج والنضج، لتتخذ هذه العلاقة الراسخة بين التطريز والأنوثة الريفيّة مكانةً مركزية في صورة المرأة المُمثّلة في الأعمال الفنية التي جاءت بعد النكبة، فقد أصبحت صورة المرأة الريفيّة، التي ترتدي على الدوام ثوباً مطرّزاً كما مثّلتها تلك الأعمال، رمزاً يختصر ديمومة فلسطين وصمودها.

في عقدَي السبعينيّات والثمانينيّات، اتّخذت المعاني الكامنة في هذه التمثيلات الفنية لصورة المرأة أهمية سياسية مركزية حافظت على شعبيتها في العقود اللاحقة. ورغم أنّ اختلاط رمزيّتي الأرض والأمومة في تلك الأعمال يجسّد القوّة، فقد انتهت هذه الصورة إلى اختزال المرأة، على نحو ما، في دلالات مجردة بمنأى عن هويتها الفردية.

وحتى يومنا هذا، ما يزال التطريز يُنظر إليه باعتباره "عملاً خاصاً بالمرأة" لا يمارسه الرجال في فلسطين علناً. إلّا أنّ الأمر يختلف فيما يتعلّق بالأسرى من الرجال في السجون الإسرائيليّة، ففي تلك الأماكن الأشد ارتباطاً بفكرة الرجولة يعتزّ الأسرى بما ينتجونه من أعمال مُطرّزة، وفي الفترات التي تحظر فيها السلطات الإسرائيليّة ممارسة الحرف في السجون، يطرّز الأسرى سرّاً وفي ظروف صعبة، لينتج عن هذه التركيبة أعمال تطريز استثنائيّة تدمج معاني الوطنيّة والمقاومة والصمود بمشاعر التفاني الأسري.

 

غابة الأثواب
تحتوي "غابة" الأثواب على أثواب وقطع مطرّزات تاريخيّة من جميع أنحاء فلسطين. وعلى الرغم من شيوع الحرفة منذ قرون، لم يصلنا من مطرّزات أواسط القرن التاسع عشر سوى القليل. بإمكاننا في هذا القسم أن نرى كيف تتمايز الرسوم والتصاميم حتّى بين القرى المتجاورة، كما تختلف القصّات والألوان وأنماط القطع تبعاً للمناطق المختلفة، ما يشير إلى الغنى والتنوّع التي تميّزت به تقاليد الأزياء والثياب الفلسطينيّة، ولطالما ارتبط التطريز في فلسطين بحياة الريف، حيث مارسته القرويّات وبذلن في سبيله جهوداً مضنية وساعات طويلة من العمل. فبرسومه ونقشاته التي جرى تناقلها وتحويرها وتبديلها عبر الأجيال، تطوّر التطريز ليصبح لغة تمتلك نظاماً اصطلاحياً وقواعد جعلت من ثوب المرأة نصاً يمكن قراءته وتأويل معانيه؛ إذ يعكس شخصيّة المرأة التي صنعته، كما يعكس ظروفها ومنزلتها الاجتماعيّة.

وكانت أقمشة الأثواب القطنيّة أو الكتّانيّة تصبغ تقليديّاً باللون النيليّ، وتنقع باللون مرّات عديدة كي تكتسب الطيف اللونيّ الأقوى، الأمر الذي حكم أسعار الأقمشة، فبيعت الأثواب الأفتح لوناً بثمن أرخص، أما تلك الأكثر زرقة فوضعت في منزلة أعلى. وكانت العناصر والأقسام المطرّزة في الثوب – مساحة الصدر (القبة)، جانبي الثوب (البنايق)، مساحة الظهر (الشنيار)، الأكمام – تنفّذ على حدة، وتُطرّز على نحو منفصل، قبل أن تحاك ببعضها البعض بواسطة غُرز متينة.

من عمل مدفوع بالحُب إلى مجرد عمل
لطالما ارتبط التطريز بالسوق التجاري، من خلال تبادل الأقمشة وإنتاج المنسوجات على أقلّ تقدير، إلّا أنه في تلك المرحلة من التاريخ كان عملاً شخصيّاً تقوم به النساء لتصنع ثيابها الخاصة، وهذا ما تغير بعد النكبة، حيث بدأ التطريز يحتكم لبنى إنتاج مختلفة، فرغم حضور السوق في خلفية ممارسات التطريز قبل النكبة، إلّا أنّ هذه المرحلة انتزعت النساء الريفيّات من حياتهنّ الزراعيّة المكتفية ذاتياً وأجبرتهنّ على البحث عن أعمال ووظائف مأجورة.

تأسست في تلك المرحلة جمعيات خيرية تهدف إلى دعم النساء وعائلاتهن وتأمين الوظائف لهنّ، ظهرت منها جمعيّات مثل "إنعاش الأسرة" لتشكّل ركائز للمقاومة السياسيّة، إلّا أن هذا كان فقط أحد تداعيات ضم النساء إلى سوق العمل المأجور، الذي أدّى أيضاً إلى إقحام التطريز في أنساق الإنتاج الرأسماليّة، التي أصبحت المرأة بمقتضاها عاملةً والتطريز عملاً.

واليوم، يهيمن انتشار المُطرَّزات الفلسطينيّة على هيئة سلعٍ تجاريّة، لكنّ هذا لم يؤدِّ إلى انقراض الثوب المُطرّز، بل تطور في البيئات المختلطة لمخيّمات اللاجئين والقرى وبرزت منه أنماط مختلفة أكثر تجانساً تتّسم بألوان ونقوش مبتكرة.


تجسيد الهويّة: التطريز، الثياب، والطبقة الاجتماعية
تعكس الثياب، بآليات إنتاجها وعلاقتها بالجسد وارتباطها بالتعبير عن الهوية، ديناميّات التقسيم الطبقي الاجتماعي في فلسطين، فقد كان التطريز سابقاً حرفة تمارسها النساء في القرى، في حين تبنّى سكان المدن أنماط ثياب عثمانيّة وأوروبيّة منذ عام 1900، ولم تكن الثياب المطرّزة في أوساطهم سوى "أزياء" من أجل الظهور الفوتوغرافي. وفي مطلع القرن العشرين ظهر أثر الاستعمار في التطريز والأنسجة، فساهم حضور خيوط التطريز التي تنتجها شركة "دي أم سي" الفرنسيّة في فلسطين في انتشار كتيبات تحمل أنماط تطريز جديدة، وأقمشة وخيوط مصبوغة صناعيّاً، مما أدّى إلى تغيير طبيعة حرفة التطريز.

وعلى نحو ما، ارتبطت الجمعيات الخيرية القائمة على إنتاج التطريز بالطبقيّة الاجتماعية، فلطالما عمل الأفراد الذين يتمتعون بامتيازات سياسية واجتماعية في مختلف أنحاء العالم على إطلاق مشاريع خيرية لدعم من هم أقل حظاً، وهذا ما كانت عليه الحال في العقود الأولى التي تلت النكبة، حيث أسّست نساء فلسطينيّات من الطبقة الوسطى جمعيّات لإنتاج التطريز من أجل توظيف اللاجئات الفلسطينيّات، لتنتهي هذه الجمعيات على نحو غير مقصود إلى ترسيخ الهوة الاجتماعيّة – الاقتصاديّة بين النساء الميسورات اللواتي يبتعن المُطرّزات وأولئك اللواتي يُنتجنها. وهذا ما يجعلنا نُسائل دور التطريز في "تمكين" النساء ونعيد النظر فيه، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أطر العمل النيوليبراليّة التي تحكم آليات إنتاج التطريز اليوم، والتي تجعلنا نفكّر بالرغبات والمشاعر التي تضعها عملية تسليع المنتجات المطرّزة وبيعها على المحكّ.

المُطرِّزات
من هنّ النساء اللواتي يصنعن المُطرّزات التي نبتاعها، وماذا يعني التطريز بالنسبة لهنّ؟ أردنا أن نعرف إذا ما زالت هذه الحرفة تحتفظ بأبعادها السياسيّة في أذهان من يمارسنها، ولهذا الغرض كُلّفت مايف برينان لإنتاج فيلم "المُطرِّزَات" الذي يتتبّع من خلال المقابلات قصص خمس مطرِّزات في فلسطين ولبنان والأردن.

ينتهي المعرض بقطعة فاتنة: ثوبٌ أنتجته رجاء الزير من سلفيت. طرّزت رجاء هذا الثوب لارتدائه في حفل زفاف ابنها. وقياساً على أصول التطريز المتعارف عليها، لا يماشي هذا الثوب إلا قليلاً "التقاليد" الفلسطينيّة من ناحية قَصّته ولونه وهيئته، ورسومه وأشكاله، إلّا أنّ قيمته المتمثّلة بالعمل اليدويّ للسيّدة رجاء ترتقي به إلى مصاف أثواب فلسطينيّة عمرها مئات السنين.

ويذكّرنا عمل السيّدة رجاء في هذا الثوب بأنّ التطريز ما زال حرفة نشطة، حيّة ونابضة. وكما سعت النساء في القرن التاسع عشر إلى الابتكار والتجديد عبر استلهام الأنماط الحديثة السائدة في أوساط مجتمعات نسائية أخرى، تستوحي النساء اليوم تصاميمهن من أعمال قريناتهن، فيتبادلن وحدات التطريز ورسومه عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ. ويقدّم ثوب كثوب السيّدة رذجاء دليلاً على احتفاظ التطريز الفلسطينيّ بموقعه ومكانته في المجتمع الفلسطيني، وعلى مضيّه قُدُماً في التطور على يد النساء اللواتي ينتجنه.

 

تسليعُ التطريز
تسعى جمعيّات التطريز الفلسطينيّة إلى هدفين رئيسيّين: دعم النساء المعوزات عبر توفير مصدر دخلٍ لهنّ، والمساهمة في إحياء التطريز باعتباره حرفةً فلسطينيّةً. وفي سبعينيّات القرن الماضي، نشطت مبادراتُ التطريز في التجمُّعات التي جرّدتها النَّكبة من مُكتسباتها الاقتصاديّة والثقافيّة، ومنذ ذلك الحين، تأسّست مئات جمعيّات التطريز، ليغيّر وجودها من طبيعة العمل بالتطريز ومن سوقه.

يدمج شعار تمكين المرأة بين توفير الدخل المادّيّ وإكساب القوّة. ومع أهمّيّة الدخل المادّيّ بالنسبة إلى العائلات المعوزة، فإنّه من النّادر أن يساهم هذا النوع من العوائد المادّيّة في تغيير علاقات القوّة الحقيقيّة المؤثّرة في عوامل الفقر والغنى، ونادراً ما تحصل المُطرِّزات اللّاتي يعملن لصالح هذه الجمعيّات على رواتب كافية تُتيح لهنّ تحقيق استقلالٍ ماديٍّ يُذكر.

المقرضون
متحف التّراث الفلسطينيّ، مؤسّسة دار الطفل العربيّ، طراز: بيت وداد قعوار للثوب العربيّ، جهاد صالح، شؤون فلسطينيّة، جورج الأعمى، المتحف العربي للفنّ الحديث – الدوحة، قطر، الشيخ حسن م. أ. آل ثاني – قطر، عامر أحمد عبّاس، كرم المالوخ، بهاء الجعبة، مها أبو شوشة، جمعيّة إنعاش الأسرة، ملك الحسيني عبد الرحيم، جمعيّة إنعاش المخيّم الفلسطيني.

القيمية والمجموعات
ربا طوطح، إدارة القيميّة والمجموعات، بهاء الجعبة، إدارة وحدة المجموعات، براء بواطنة، تنسيق المجموعات، نادين عرنكي، مسؤولة المعارض، سلمى أبو مريم، الترميم، جنان عوض، الدعم اللوجستي.  

البرنامج العام والإنتاج
عبور الحشاش، إدارة البرنامج العام والإنتاج، خالد الشّعار، الإنتاج الفني، لينا صبح، مصمم جرافيكي، حارث يوسف، محرر مرئي صوتي، حنين صالح، الإعلام والاتصال، رنين قرّش، البرنامج العام والفعاليات.  
إدارة المحتوى
هلا شروف، إدارة المطبوعات، بدر عثمان، تحرير وترجمة، روان نمر، تحرير وترجمة

المتبرعون
أشرف أبو عيسى، رامي راضي النتشة، عميد حامد الحسين